Wednesday, February 26, 2014

الشجرة




تعالي ..... تعالي إلى هنا ... تعالي ... 


 تسير على إثر تلك النغمات المتصاعدة من مكان مجهول .... 


-لا تقلقي عزيزتي أنا في انتظارك هنا ...

 تتقدم أكثر وأكثر تلاحق قدم بأخرى .. تسير خوفًا وفضولًا... فهي تسمع هذه النغمات منذ فترة ليست بالقصيرة، كان عقلها يثنيها عن الرضوخ لها ... وفي هذه المرة كان قلبها هو القائد ...

... 
 تلمست بقدميها أرض هذه الغابة القديمة الخضراء بخفةٍ وعفوية ٍ... حتى وصلت للبقعة المنشودة لتجد شجرة عملاقة قابعة بسوادها وضخامتها تروي عصورًا من  القِدَمِ والعتاقة ...

أوراقها هربت من سوادها القاتم ...تركتها هكذا صلعاءَ موحشةَ عن بقية الاشجار المحيطة بها التي ابتعدت عنها بدورها عشرات الأمتار مهابة وجزعا من منظرها .... ولم تكتف بالسواد الذي اخترق جسدها .... بل أحاطت نفسها بدائرةِ موت سوداء قتلت ما حولها من الحشائش!

 نظرت إليها بعينين تناشدان البراءةَ ألا ترحل وقد اتخذهما الموت مسكنًا له .... متحيرة ولكنها متفهمةً وجود تلك الشجرة بتلك الهيئة الموجعة

 اقتربت منها بثقة .. جلست تحتها .. فأمالت الشجرة أحد أغصانها علي رأسها لتربت عليها بخفة ... وهكذا بدأت العلاقة بينهما تنمو وتستولي علي حياتها 


 -غريبة أنت، لا تنامين ليلا ... وتتجولين في كل مكان نهارا ! 

-كيف علمت بذلك؟ !!

-عزيزتي أنا أعلم عنك كل شيء .... لكنني متحيرة ... لماذا لا تنامين ليلا ؟ ما يؤرقك بالتأكيد لا يستحق كل هذا العناء ؟ 

 -لو كنت تعلمين عني كل شيء لما سألت هذا السؤال .. 

 وقامت في خفة وألقت إليها إبتسامة سريعة لعوب وقالت للشجرة قبل أن تغادر 

 -سأعود لك غدًا  ... 

 ذهبت وهي تقفز على قدم وقدم مهمهة بتراتيل أنغام ليلية قد أنشدتها للظلمة والسكون قبل ذلك ... فهي لا تنام .. 

 خرجت من نطاق الغابة ولاح أمامها بيت كبير متهالك علي استحياء .. توجهت إليه وولجته ونادت بأعلى صوتها ......

- أمي لقد عدت 

 انتظرت برهة بدت كأمد طويل حتى أجابتها والدتها .....

-حسنا صغيرتي .... هلا اغتسلت من أجل طعام العشاء ؟ 

-حاضر أمي 

تسلقت السلم قفزا وكل درجة تُنْقِلُها للدرجة التالية وتحدث صوتا .. تك .... تك ... تك 

 ......................  

 تك ... تك ... تك ... تك 


 -أيها المارد .... 

 -أيها الماااااااااااررررررررررررررد 


يترنح جسد ضخم كقطيع جاموس بري متبعثر ويتجه نحو الصوت ويميل بصعوبة بالغة قائلا بصوت يصارع الإنهاك 


-لماذا تصرخين أيتها القزمة ؟ 

 يأتيه الصوت الأول متلعثما حزينا يائسا ...

 -أرجوك ... هلا تركتني أذهب لبيتي الآن!!

أنا لا أعلم لم تحتجزني هنا منذ أشهر!!

إن كنت ستأكلني فأقدم على ذلك الآن قد مل الانتظار مني!!

فنفخ المارد نفخة من أنفه كادت تطير بها بعيدا 
 وقال ...
 - لم تجيبي حتى الآن ولا على أي  سؤال بشكل صحيح وقد قلت لك عندما تجيبين الأسئلة بإجابات صائبة سأطلق سراحك 

فنظرت له بعينين سقت النار أجيجا بلهيبها وصرخت ...

-أنت تسأل أسئلة بديهية وأنا أجيبك عليها فلا تقتنع بإجاباتي 

واتجهت للباب الحديدي ممسكة بالقبضان وجعلت تهز جسدها جيئة وذهابا ....

-ماذا تريد ها قل لي ماذاا ترييييييد 

فنظر لها بعينين فاترتين.

-أنت حمقاء 

 فتوقفت إنهاكا ... وتهاوت علي الأرض التي احتوتها كذرة تراب متطايرة 

وبصوت ضعيف ...

- حسنا اسألني سؤالا الآن 
 فنفخ نفخة أخري من فمه الذي بدا كمغارة لا نهاية لها ..

-. كم عدد أشهر السنة ؟ 

فنظرت إليه بوجه هربت ملامحه منه ..

-هذا سؤال سهل ..... اثنا عشر شهرا 

فأمال ابتسامة ساخرة علي زاوية فمه وقال .... -حمقاء كالعادة 

وتركها ورحل بهوجائية وعشوائية قوافل نقل تثير من خلفها الغبار 

تركها تذرف دموعا شائكة لا تعرف هدف نزولها ولا أين وجهتها ! 

تك ... تك ... تك 

-ماهذا الصوت المزعج ...

 وأغلقت أذنيها وعينيها 

..........................

 نظرت في المرآة لعينيها الغافلتين وهي تغتسل 

وتناهى لمسامعها صوت والدتها 

 -عزيزتي طعام العشاء جاهز 

فهرعت لطاولة الطعام واتخذت مكانا لها بين والديها 

 الصمت كان سيد المكان كالمعتاد لا يخترقه غير أصوات الملاعق عند ارتطامها بالأطباق كحرب ضروس تنتهي بانتهاء الطعام 

نظرت لوالدها الذي انكب على طبقه لا يظهر إلا بعض وجهه يحرك يديه بشكل مبرمج علي نقل الطعام من الطبق إلى فمه 

انتقلت لوالدتها التي أمالت رأسها علي يديها وجعلت تلعب بالملعقة والطعام كالطفلة 

ارتسمت علي وجهها ملامح العزلة والحزن 

تكمل طعامها في صمت تسمع صوت مضغها للطعام 

 ومع نهاية هذا المشهد الدرامي 

الذي تميز بفانتازيا عالية .... تجرجر قدميها نحو غرفتها لترمي ثقلها بين أحضان الكتب فتأخذها لعوالم بعيدة عن  هذه الفانتازيا المؤلمة ولكنها لا تستطيع مقاومة تلك الحرارة المالحة التي تفجرت من عينيها علي حين غرة ... تركتها تحفر مسارها علي خديها تاركةً إمضاءها ثم تتساقط أرضا 

 ................. 

 تستطعم ماءً مالحا علي شفتيها فتستيقظ من غفوتها منزعجةً تحاول طرد هذا الطعم المزعج المحلى بالمرارة .... 

تعتدل في جلستها ،،،، تنتفض ذرات جسدها فزعا عندما ترى تلك الكتلة المدكوكة الضخمة مستندةً علي القضبان 

يلقي لها المارد من بين القضبان طبقا صغيرا من الطعام 

 -حان الوقت لتأكلي شيئا 
 تتلقى الطبق بيديها تنظر فيه بإشمئزاز وتلقي بنظرها للمارد الذي يلتهم بدوره فخذا كبيرا من لحم الغنم وكأنه حيوان مفترس ينقض علي فريسته 
وبفمٍ يملؤه ويغطيه الطعام يقول ... 

- لو أكملت هذه الجملة صحيحة سأخرجك من هنا ...... العقل السليم في ،،،،، 
 فاتخذت ابتسامة ساخرة واثقةً من شفتيها مجلسا وقالت ... 

- في الجسم السليم بالطبع 

انفجر المارد ضاحكا وارتمت رأسه للوراء وجعلت بطنه تتحرك في جميع الاتجاهات وكأنها بركة ماءٍ اصطدم بها عشرات الأحجار في نفس الوقت 

-ألم أقل لك حمقاء 
 وأكمل ضحكه الذي بدا كالنهيق 
 ترامت خيبات الأمل على كتفيها  وانتقلت بثقلها علي ملامح وجهها الباهت وتناثر بعضا من روحها أرضا

...................................

 امتدت أفرع تلك الشجرة البالية السوداء علي مكتبها منشدةً تراتيل استدعائها ...فابتسمت الفتاة وهبت من كرسيها وارتدت حذاءها وهرعت لأسفل الدرج كالفراشة الساذجة وقالت بعلو صوتها 

-أمي سأذهب قليلا للغابة ...

انتظرت مليا ثم أعادت الجملة مرةً أخرى ثم قالت 

-أمي .... أمي 

وأخيرا جاءها الرد متباعدا متناهيا في الضعف ... 

-كما تشائين ...... 
 تلبس التردد بالفتاة ثم انطلقت من الباب للغابة 
كانت تارةً تهرول وتارةً تتسكع وتشتم الورد المتناثر حتى وصلت للشجرة السوداء 

-كيف حالك اليوم صغيرتي؟ 

 ارتمت الفتاة علي أطراف جذعها واتكأت برأسها عليها وأخذت تسرد ما حدث في يومها المتبعثر 

وأنهت كلامها بالمشهد الدرامي الفانتازي علي العشاء 

ًًًاهتزت أفرع الشجرة محركةً الهواء الراكد وكأنها تستعد لإلقاء خطبة ثم قالت 

-ما رأيك أن تسكني داخل جزعي وتندمج روحك مع روحي حتي لا ننفصل أبدا وتعيشين هانئةً معي 

 اعتدلت الفتاة في جلستها والتفت إليها 

-ولكني لا أريد أن أترك أبي وأمي 

-لماذا ؟ أنت لا ترتاحين في المعيشة معهم ؟ 

-أنا لم أقل ذلك ... أنا فقط .... 

وصمتت مليا فأفصحت عن كثير 

 -عزيزتي هذا هو حلك الوحيد ... صدقيني 

-لا ... لا أريد 

-ماذا تعنين ؟ 

-أعني ما سمعتيه 

هبت ريح عابثة مفاجئة جعلت تدور في مهابة حول الشجرة وبدأت وكأن الشجرة تنتصب قائمةً وتزداد طولا و ضخامة 

 -ليس لك رأي في ذلك عزيزتي 

 تدحرجت الفتاة قائمة وتراجعت للوراء حينما رأت أفرع الشجرة تمتد إليها لاقتناصها 

ابتعدت الفتاة أكثر وأكثر وبدأت تهرول ثم توقفت فجأةً وكأن جسدها توقف عن العمل بالكلية

استدارت للشجرة ورفعت يديها وصرخت في وسط الريح الهوجائيه العاتية 

-مهلا توقفي قليلا

كانت نبرتها تملؤها صرامة الجنرالات المخضرمين مما جعل الشجرة تتوقف مندهشة 

 وهدأ المكان فجأة وكأن الحياة تركته ورحلت  ثم قالت الفتاة 

-حسنا سأندمج معك كما تتمنين ولكن أعطيني الفرصة لأودع والدي وآتي ببعض أغراضي 

سكنت الشجرة لبرهةً ثم قالت 

- حسنا اذهبي وسأنتظرك ...

وسكتت برهة أخرى ثم أردفت 

- تعلمين أني أستطيع أن أصل إليك 

 نظرت لها الفتاة نظرةً شاردةً عن الحياة وتركتها لتذهب إلى بيتها وجعلت تمشي بخطوات ثابتة حتى وصلت للبيت المتهالك ولجته وانتظرت برهةً وتجولت ببصرها في أركانه ثم توجهت للمطبخ وأتت بقارورة كبيرةٍ ودست شيئا في جيبها وهرعت من الباب وتركته يترنح ويصدر أصوات صرير عاليةً كآلاف من الصرخات المعذبة 

قطعت الغابة ووصلت للشجرة القابعة .. تبادلا نظرات حذرة  واقتربت منها الفتاة وفي يديها القارورة قائلة 

 -أتعلمين أن هذا هو مشروبي المفضل 

وفتحت الغطاء وارتشفت منه قليلا 

-لابد أن تتذوقيه معي 

 فأطلقت الشجرة حفيفا كالفحيح متمايلةً يمينا وشمالاً

-تعلمين أني لا أستطيع التذوق 

-جربيه معي أرجوك 
 -حسنا 
 ومازالت تطلق هذا الفحيح الذي من المفترض أن يكون ضحكات وبدأت الفتاة في رش المشروب عليها في كل مكان فيها حتى نفذت وابتعدت الفتاة قليلا وقالت 

-متأكدة أنه سيعجبك 

ودست يدها في جيبيها وأخرجت أعواد كبريت وأشعلتها وألقتها عالشجرة فاشتعلت فيها النار وانتشرت في جسدها البالي الذي تحدى عصورا من الزمن وانطلقت آلاف الصرخات لأرواح معذبة كجحيم متصاعد وجعلت تترنح يمينا وشمالا  فتشبثت بها النيران أكثر 

كانت واقفةً تشاهد بإعجاب تلك التحفة الفنية التي صنعتها بيديها شعرت وكأنها فوق العالم تشكله كما تريد .. تلقي عليه الألوان فيرتسم كما تريد 
رحلت وبريق الانتصار يتلألأ في عينيها وخليط من الغرور والتوهج يمتزجان بملامحها حتي وصلت حدود الغابة وقد كانت صدمة عمرها تنتظرها فقد شبت النيران في بيتها المتهالك 

انتزعت قبضة النيران قلبها من صدرها وألقت به داخل البيت المتهاوي فهرعت نحوه .. فصدها أحد رجال الإطفاء فبدأت بالصراخ والبكاء 

-أبي وأمي بالداخل .... أبي وأمي بالداخل 

فحاول الرجل تهدئتها  قائلا        

-لم نجد أحدا بالداخل غير تلك الفتاة 

وأشار لفتاة تجلس على صخرة مجاورة تُبٓادُلها نظرات متشابهة 

سكنت ... وتوجهت بخطى ثابتة للفتاة القابعة على الصخرة وجلست بجوارها ... تواصلا بأعينهما ... تبادلا بريقا مألوفا لهما ... ارتفعا عن الأرض وخفتت الأصوات من حولهما وكأنما الزمن نسيهما ورحل وقالت الفتاة 

 أتعلمين أن العقل السليم في الروح السليم ! 


The ........ Fin 



4 comments:

بياترتس said...

اندمجت جدا واحداثها جاذبه جدا ومشوقه بس كنت حاسه انها محتاجه سرد اكبر لاحداث اكتر كان ممكن تجعل منها فصه طويله واكثر عمقا

توهة said...
This comment has been removed by the author.
توهة said...

سعدت لمرورك ^_^

وطبعا جيتي هنا بإرادتك البحته :D

انت عارفه... دي أطول قصة كتبتها وقعدت فترة طويلة أكتب

فيها عشان ماتبقاش ناقصه أحداث ..... انت عارفه اني
نفسي قصير ماليش في القصص الطويلة مستعجله علي طول
معرفش ليه :D


بس حقيقي مبسوطه بتعليقك ^_^

علنا نستعيد أمجاد الماضي ^_^

Anonymous said...


هذه المرة كان الأمل صارخا ..

والقصة متدرجة الألوان حتى تضج بالحياة في النهاية .. كنهوض طائر العنقاء من الرماد ..

أحببت المارد وقفص الجهل .. والمعرفة .. في آن واحد ..

... وأعجبتني دقة وصف فانتازيا العشاء اياه في حروف بسيطة سريعة بليغة ..

.. والشجرة .. بتراتيل ندائها ونشوب مخالبها في الروح الهاربة بحثا ..

على أن الانتصار النهائي المزدوج كان رائعا ..

توقعت منك ان تتركي الأمل خيط رفيع ضبابي غير واضح .. ولكن هذه المرة كان متألقا .. النصر .. احراق السفن الخلفية .. بل .. وايجاد الأجوبة ..

نهاية القصة أرضتني للغاية وتركت شيئا مبهجا للنفس ..

القصة تُقرأ أكثر من مرة .. بلا ملل :)

واصلي ابداعك ..

:)