Monday, December 31, 2012

الصوت الباكي

هنا اكمن بحالتي العقلية المنفردة  ينتشر  حولي حالات عقلية اخرى.. كل في ملكوت مختلف عن الاخر .. تنحشر أنفاسنا في هذا المكان المذري لا نستطيع الخروج  ... يطوف من حولنا حراس بحالاتهم العقلية ايضا ولكن الفرق بيننا وبينهم ان المجتمع يتقبلهم اما نحن ..........فلا، لذلك نزج بهذا المكان  

!ناهدتهم كثيرا لكي يسمحوا لي ببعض الاوراق وقلم حتي أسجل خواطري ولم يأمنوا لي بالقلم حتي اثبت جدارتي العقلية 
  ها أنا الآن بين حفنة من الأوراق وقلم قصير  لا أدري ماذا أكتب ولا من أين أبدأ !!! ... أأبدأ من حيث إنتهت حياتي كعاقل؟!  أم أبدأ من تلك الفترة التي مارست فيها طفولتي وأخذت أحلامي في التكون ولكنها شوهت قبل ولادتها !!
أيا كانت نقطة البداية  فهي ليست محور التحول الحرج في مسار مستقبلي 

أذكر شجرة التوت التي طالما لعبت تحتها أنا وأصحابي ...مازالت رائحة التوت تلاعب أنفي حتي الآن ... كانت على مسافة قصيرة من منزلنا القاطن في تلك البلدة الصغيرة متواضعة المساحة ...تسمح لكل الاهالي أن يعرفوا بعضهم بكل سهولة 

لن أقول أننا البلدة المثالية في الأخلاقيات وتسامح الأهالي مع بعضهم .... فإننا ككل البشر ذات طبيعة مطاطة  تتسع لكل الصفات الإنسانية ...الفرق الوحيد أنه إذا  تصدع حادث في أحد أطراف البلدة وصل شقه للطرف الآخر منها... فنتحد او نختلف مع بعضنا علي أساس مجريات الحدث........... غير ذلك لم يكن هناك هدف أكبر لحياتنا نعيش من أجله ...نستيقظ صباحا نأكل نعمل ثم نأكل ثم ننام وهكذا منغمسين في ماديات الحياة أكثر من روحانياتها .. 

لا يسعني إلا أن استشعر تلك القشعريرة .....تعتصر كياني الضئيل كلما لاحت أمامي الذكرى الأليمة لذلك الحدث التي تمخضت منه كل التطورات التي أحاطت بي وببلدتي او بما كانت تدعى بلدتي !!!!


ذكرى تمتد لذلك الأنين الذي تصدع بين ليلة وضحاها في أرجاء البلدة ..... يتسرب إلى أذنيك بين ذرات الهواء الملبدة بزفيره
ينتزعك من مرقدك الآمن سواء إن كنت نائما أو مستيقظ .... يهز كل خلية في جسدك الرث فيمزقه كل ممزق
ودون وعي أو إتفاق مسبق خرجت  أهالي  البلدة من أكنانهم على إثر ذلك الصوت الباكي .!!!!!!

يتساءلون عن هذا الذي خرق سكينتهم دون سابق إنذار .... يجتمعون ،، يتجاذبون أطراف التعجب فيما بينهم ومازال الصوت الباكي يإن في الأرجاء !!!!!!

وبعد بضع ساعات من الأنين والتعجب المتواصلين أجمعوا عزمهم علي الذهاب لبيت كبير البلدة .... انطلقوا محملين بثقل نحو المجهول وترقب لما ينتظرهم

خرج عليهم كبيرهم بعينين تحصر الحضور وتلقي عليهم نفس الحيرة والريبة التي تحملها قلوبهم .... وقرر أن يجتمع بأكابر كل عائلة لينظروا ما هم فاعلون


وفي الصباح التالي لليل أرق الجفون وصوت  أزاح الراحة عن الصدور ....إجتمع أكابر البلدة في قاعة الإجتماعات يتشاورون ويتقاذفون الكلام والاستنتاجات دون أمل للوصول لقاع هذة المشكلة ودام الأمر لعدة ساعات حتى انتهوا علي أن يخروجوا بجماعات تفترق في أنحاء البلدة ليبحثوا عن مصدر الصوت الباكي



وبالفعل وبتنظيم غير متقن إنطلقت جماعات البحث تدب أرجاء البلدة ....يدقون كل حارة وخندق ومكمن دون جدوى وكلما حاولوا تتبع الصوت ومشوا خلفه قليلا يصلون لنهاية مغلقة في وجوههم

ورغم هذا استمرت جماعات البحث لعدة أيام متتالية وكنت أنا وأبي وإخوتي معهم نبحث حتى داخل الجحور  وكل يوم يمر نزداد جنونا وارتيابا !!!!!!


 حتى يأسنا أخيرا وبدأت جماعات البحث تتفكك وتقل حتى انتهت تماما 

قبع كل فرد في معزله بعيدا عن البلدة ....بعيدا عن أهله .....بعيدا حتى عن نفسه ...يتأمل جدران سجنه الخياليه ... تخترق أذنيه أنات الصوت المجهول ... ينام عليها فيحلم بها ثم يستيقظ عليها ،،، يأكل علي نغماتها ..وأحيانا ينشد معها تراتيل حزنه
...قطعت أواصر التواصل بيننا ... صرنا أحياء كأموات نرى  بعضنا ولا نرانا


نسير في سرمد من الهلاوس والظلام ....نتخبط في جدران هذا السجن الهلامي فيرتد بنا لنتخبط في بعضنا البعض
وأخيرا ...... سلكنا  الجنون ضربا ....
فذات ليلة رمادية الجفون ... سمعنا مناديا ينادي قائلا :- ها هو صاحب الصوت.... بيدي أمسك رأسه الأشعث ،.... لقد نحرته بيدي كما تنحر الشاة بالمسلخة ...لقد خلصتكم من الصوت الباكي

والمدهش أننا كنا نسمع بعد كل كلمة يقولوها نحيب الصوت يزداد ..... فمن شدة جنون الرجل فقد حتى سمعه مع بصيرته

وكأننا كنا ننتظر عذرا لنقتل به بعضا البعض .... سارت الدماء في كل منحى من مناحي البلده القاتمة  .... غلفت رائحة العفن
 محيط هوائها المعكر بالمآساة .....ومازال الصوت صامدا لا يصمت أو يرتاح  .... وكأنه اوركسترا تعزف خلفية مسرحية درامية دمويه سيئة الإخراج

هكذا كنا وهكذا عشنا وهكذا انتهينا ... لم يبق من أثر البلدة غير أطلال تروي فجاجة من كانوا يوما بشرا

تمكنت أنا وحدي من الهروب منها فلم اشترك في هذا الهرج والمرج الملطخان بالدماء ....إختبأت في إحدى البيوت المهجوره حتي انتهاء المسرحية الدموية .... و خرجت مع ختام  الأوركسترا للحنها .... فلم أعد أسمع أنات الصوت الباكي وكأنه لم يكن تماما كالبلدة رماد فوق أطنان من الجثث .. يرفض أن يتطاير في الهواء

خرجت من البلدة تركتها ورائي وحملت روايتها في كل مكان أرويها علي القاصي قبل الداني .....وما ألاقي إلا بعضا من نظرات الإستهجان من هرائي أو الشفقة علي جنوني ....حتى     ثارت ثائرتي ذات يوم .... إنطلقت في الشوارع أصرخ في البشر .... أحذرهم من الصوت الباكي .... وأقول لهم ..... أنتم التالون ،،، أفلا تعقلون !!!! ،،،، أفلا تعقلون !!!!  حتى كدت أن أصيب أحدهم بعصاتي ... أو هكذارأوني .... ولم أر نفسي هكذا .....فتم احتجازي من قبل السلطات في هذه المصحة

سجنت بهذا المكان وسجنت بداخلي رواية بلدتي ...وغلفني رنين الصوت الباكي ... أصبحت أأتنس به أنام عليه وأستيقظ به .... و أحيانا أشكو إليه آلامي ......


أغمض عيني الآن .....لكي أراه ......